
الطيب الهادي يكتب : 69 عامًا على الاستقلال… ولم ننجح بعد في بناء وطن جامع هل ينجح تحالف السودان التأسيسي فيما فشل فيه الآخرون؟
في الأول من يناير 1956، خرج آخر جندي بريطاني من السودان، معلنًا ميلاد دولة مستقلة ذات سيادة. لكن ما ظنه الآباء المؤسسون بداية لعهد جديد من الحرية والتنمية والوحدة، تحول تدريجيًا إلى سلسلة طويلة من الفشل والتراجع والانقسامات الدامية. فما بين الانقلابات العسكرية، والحروب الأهلية، والانفصال، والنزاعات المتكررة، ظل السودان حبيس سؤالٍ جوهري لم يُجب عليه حتى اليوم: كيف نؤسس دولة سودانية جامعة؟
لقد فشلت كل الأنظمة السياسية، بشقيها العسكري والمدني، في الإجابة على هذا السؤال. ولم يُكتب لأي مشروع وطني جامع أن يرى النور. كانت الشعارات كثيرة، ولكن الإرادة السياسية غائبة أو مرتهنة للمصالح الضيقة.
واليوم، وفي لحظة تاريخية فارقة من تاريخ السودان، يطل على المشهد تحالف السودان التأسيسي، الذي انعقد بالعاصمة الكينية نيروبي، بمشاركة عدد من الأحزاب المدنية والقوى الثورية. هذا التحالف، على خلاف مبادرات كثيرة سبقت، حاول أن يعالج جذور الأزمة السودانية لا مظاهرها، وأن يُعيد صياغة مشروع الدولة من الأساس، عبر طرحه لأجندة تأسيسية جريئة وشجاعة.
جوهر المشروع التأسيسي: نحو سودان جديد على أسس واضحة
ما يميز هذا التحالف هو أنه لا يتحدث عن “تغيير الحكومة” فحسب، بل عن تأسيس دولة جديدة تقوم على ثلاثة ركائز واضحة:
اللامركزية الحقيقية:
التحالف يتبنى رؤية واضحة في توزيع السلطة بشكل عادل بين المركز والأقاليم، بحيث يُمنح الهامش سلطات فعلية في إدارة موارده وشؤونه، ما يعالج المظالم التاريخية التي تسببت في النزاعات والانفصالات. هذه اللامركزية ليست مجرّد شعارات، بل أحد اللبنات الجوهرية لبناء وطن يتّسع للجميع.
فصل الدين عن الدولة:
وهو من أكثر المبادئ جرأة ووضوحًا. فقد أدى توظيف الدين سياسيًا في السودان إلى تمزيق المجتمع، وتبرير القمع، وإشعال الحروب، خاصة في الجنوب ومناطق الهامش. التحالف لا يدعو إلى محاربة الدين، بل إلى إبعاده عن أروقة السياسة، وصون الدولة من الاستغلال الديني. بهذا، يُؤسس لمواطنة متساوية، لا تمييز فيها على أساس العقيدة.
الوحدة الطوعية لا الإكراهية:
التحالف يعترف صراحة بأن الوحدة القسرية لم تعد مجدية، وأن بناء السودان لا يتم بالفرض بل بالإقناع. لهذا يدعو إلى وحدة طوعية تقوم على الاعتراف بالآخر، وتحقيق العدالة، وضمان الحقوق. وحدة تُبنى على الرضى، لا على القمع والهيمنة.
هل ينجح التحالف في خلق إجماع حقيقي؟
نجاح تحالف السودان التأسيسي لن يكون سهلًا، في ظل حالة التشرذم، وتعدد المبادرات، وانعدام الثقة في النخب السياسية. لكن ما يميزه حتى الآن هو وضوح الرؤية، والجرأة في الطرح، وابتعاده عن المجاملة السياسية، وهو ما قد يكون بوابة لبناء كتلة تاريخية جديدة تضع حدًا للدوامة السودانية المستمرة.
المطلوب الآن ليس فقط دعم هذا التحالف، بل نقاشه ومساءلته، والانخراط في تطوير مشروعه، حتى يكون بالفعل مشروع كل السودانيين، لا نخبهم فقط.
الخلاصة:
مرّت 69 سنة على الاستقلال، لكننا لم ننجح بعد في بناء وطن يسع الجميع. تحالف السودان التأسيسي، برؤيته الجديدة، يضع أيدينا على الجرح، ويقترح طريقًا مختلفًا عن دروب الفشل السابقة.
فهل يكون هو اللبنة الأولى في تأسيس سودان جديد، ديمقراطي، علماني، لا مركزي، متعدد ومتّحد؟
أم أنه سيكون مجرد محاولة أخرى ستُجهضها صراعات الطموحات والعقول الضيقة؟
الكرة الآن في ملعب الشعب السوداني، لا النخب وحدها.