Uncategorizedالرأي

إبراهيم عبيد يكتب إعتذار الشماليين للسودانيين_(1)



حينما كنا أطفالاً تتخطفنا الأمنيات بوطن تسوده قيم الحرية والعدالة والإنسانية، كنا حينها يفعاً بجزيرة”تنقاسي” بالولاية الشمالية، واذكر جيدا وقتها عمنا الحاج ضيف الله الذي بصم علي حيواتنا قيم المحبة والسلام.

جاء الحاج ضيف الله للقرية في بواكير حياته وعمل “تربالاً” بالمزارع فتشرب من النيل العظيم دفقات من الإنسانية اكسبته عزةً وشموخاً وكبرياء، حتي إنه صار بين أحاديث المجتمع “لغزاً” عجزت عنه المخيلة الشعبية من فك طلاسمه.

وبالرغم من الوقار الذي تتقمصه شخصيته الإنسانية ، الإ إن ذلك لم يشفع للعقل الإستعلائي من وصمه بـ”العبد” ضيف الله، وكانت اسرنا كثيراً ما تحذرنا ونحن نلهو تحت أشجار النخيل من كشف “السُرة” حتي لايشرب هذا “العبد” مصاريينا ، وكنا نتخوف من ذلك كثيرا خصوصا حينما يتقدم نحونا ماداً كفتي يديه المكتظين بالحب والحنان لتحيانا بحنية وهو يقول”تعالوا جاي ياعيالي والعبوا بعيد من البحر باقي دا موسم التماسيح”.

رغم تحذيراته الأبوية الإ ان ماتم تخذينه بعقلنا من سرديات وأساطير مؤسسة للخرافة حالت دون مد جذور الإلفة بيننا وبينه، إذ كنا ننظر اليه كشخص خارج دائرة الإنسانية واقل قيمتنا منا نحن إجتماعياً وثقافياً، ولذا ظل الحاج يسكن لوحده في “قبو” من الوحشة الإنسانية بسبب الإستعلاء الثقافي والإجتماعي.

وذات مرة نادي مؤذن جامع ” تنقاسي” المواطنين بالحضور للجامع للصلاة علي جثمان الفقيد الحاج ضيف الله ، بعد ان توفي وحيداً بتلك الجنائن المطلة علي شاطئ النيل ، ولم يجد من يسعفه حتي فاضت روحه الي بارئها.

وبشيطنة الطفولة حضرنا للجامع وتزامن ذلك مع صلاة العصر، وبعد ان قام الإمام بصلاة الجنازة عليه تشاور اهل جزيرة تنقاسي في دفنه، فرض الجميع دفنه بمقابر الجزيرة خوفاً من قيامه “بعاتي” فهو بحسب مارسخ بالمتخيل الشعبي من نفر البنية الذين لايمكثون كثيراً بود اللحد.

أستقر رأي الجميع علي دفنه بعيداً من القرية ، حتي وان قام من تربته يوماً ما فإن لن يستطيع ان يلحق الأذي بالسكان، وبالفعل تم دفن الحاج ضيف الله بعيداً عن القرية وأستقرت بمخيلتنا تلك القصة تحكي عن إستعلاءاً إجتماعياً مارسه الشماليين ضد العديد من الشعوب السودانية التي ينظر إليها إنسان الشمال بنوع من السخرية والحض من كرامتها الإنسانية.

إننا يجب ان نتعذر لجميع الشعوب السودانية عن الأخطاء التاريخية التي وظفّت المنتوج الثقافي والإجتماعي لإنسان الشمال في الحض والتقليل من قدر الآخرين الذين ينظر اليهم بنوع الدونية،وقد عبّرت عن ذلك العديد من الموضوعات الثقافية في ثقافاتنا الشعبية.

لم تكن ظاهرة “التفريخ” شيئاً جديداً على مجتمعات الشايقية،فقد كانت جزءاً من تراثهم تاريخهم كما تحكي الروايات المتوارثة،ومن أشهر القصص التي تروى هي قصة فاطمة بت حمد النيل أو كما تُعرف باسم تاج الملوك والتي تعد من الجدات المشهورات للشايقية.

حيث يقال إن رجلاً يُدعى الطيب ود العمدة وهو من أبناء عمودية الشايقية كان قد اشتراها من سوق الرقيق.
فقد كان الطيب يمارس تجارة الرقيق مهنة ورثها عن أبيه الذي بدوره ورثها من سيده الذي حرره فيما بعد، فأحضر
الطيب فاطمة لأمه ثم غادر لقضاء بعض أعماله التجارية.

وبعد ثلاثة أشهر، عاد الطيب إلى منزله، لتستقبله أمه بأسئلة حيرته. قائلةً له يا الطيب البنية دي عندك فيها “غرض”، فرد عليها قائلاً لا يا “يما” أنا اعتقتها وكنت أريد أن أرجعها لأهلها فأغلب الظن أنها قد سُرقت من إحدى قرى الشايقية القريبة.” نظرت إليه أمه استغراب وسألته وكيف عرفت أنها مننا.

فأجابها يا “يمه” فيها الشبه والشكل والدم ما ينكر،فقالت الام نحن ما زرق زيها فضحك الطيب امي انتي ازرق منها و ردت “بري” انا خضره ما زرقة،ثم قالت أنا لم أسمعها تتحدث بالعربية طوال الأشهر الثلاثة، لكنها تألفت سريرك وتنظف مكانك كل يوم. أظن أنها ترغب فيك دخلت الأم على فاطمة وقدمت لها جلباب جديداً وقالت لها ارتدي هذا الثوب فالطيب لا يحب أن يراكِ مرتدية الرحط ظناً منه أنكِ من العائلة.”

ارتدت فاطمة الثوب الجلابي وخرجت لتقديم الطعام فتفاجأ الطيب بمظهرها الجديد وابتسمت أمه وقالت له إذا كان عندك غرض بالبنية، فقله. فأجاب الطيب مبتسماً يا أمي، هذه الفتاة تبدو مسروقة وغرضي ليس بها بل في استعادة أمانتي.

ضحكت الأم وقالت له إذاً فك “تكة” سروالك واقضي حاجتك. اندهش الطيب سألها بالحرام وإن جابت جنا
فردت الأم بثقة عادي، أنا القدامك دي مفرخاك تفريخ لا زواج ولا عقد ولا شي.

أيها الشماليون ، اعتذروا لجميع السودانيين عما ارتكبتموه من أخطاء عمقّت من الأزمة السودانية، وكانت سبباً مباشرا في كل الحروبات الأهلية التي شهدها السودان بعيد الإستقلال.

اعتذروا عن تزوير تاريخ مهيرة بت عبود التي حاول التاريخ الممنهج صناعة مجداً مزوراً ، لطمس تاريخ مناضلات اسهمن في صياغة التاريخ السوداني آمثال رابحة الكنانية والميرم تاجا ومندي بت السلطان عجبنا التي فجرّت براكين الغضب ضد المستعمر بجبال النوبة.

اعتذروا عن “السودنة” وماصاحبها من “عيوب” ظلت وصمة عار في جبين كل النخب الشمالية التي ارتضت خيانة السودان بالإرتماء في أحضان المستعمر من أجل إعادة مزيفة عن عروبة متوهمة في المتخيل الشعبي لإنسان الشمال.

إنني اعتذر بصفتي الشخصية لجميع الشعوب السودانية عن ممارسات اجدادي ومن بعدهم النخبة “النيلية” التي اسهمت بشكل مباشر في تجليات الأزمة السياسية والإجتماعية التي نعيشها اليوم وتكتوي بنيرانها جميع الشعوب السودانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى