Uncategorizedالرأي

النفس طماعة لو ما ظلمت ما بترضي


يروي لي صديق عزيز ذات يوم، عن قريب له يعمل تاجراً في مجال المواشي، لكنه لا يُعطي الأُجراء حقوقهم كاملة. وعندما سُئل عن السبب، أجاب بعبارة صادمة لكنها كاشفة: “النفس طماعة، لو ما ظلمت ما بترضي!”.
عبارة تبدو بسيطة وعفوية، لكنها في الحقيقة تلخص مأساة وطن بأكمله.

اليوم، ونحن نعيش في ظل حرب عبثية دمرت السودان، وشردت الملايين، وقتلت الآلاف، وانتهكت الحرمات، نجد أنفسنا مجبرين على طرح سؤال وجودي: هل بالفعل كانت هذه “الطبيعة النفسية الظالمة” هي التي قادت السودان إلى هذا المصير الكارثي؟ هل نحن أمام أزمة أخلاقية متجذرة في سلوك النخب المسيطرة؟

منذ أن خرج المستعمر من السودان، لم يخرج معه الاستعلاء السياسي ولا التهميش الجغرافي ولا الهيمنة العرقية. بل ورثت فئة نخبوية – جغرافياً وعرقياً – مقاليد الحكم، واستمرت في نهج الإقصاء، بمساعدة انتهازيين من أطراف السودان المختلفة، ليصبح الظلم ثقافة، والسلطة غنيمة، والثروة ميراثاً حصرياً.

إن اختزال السلطة والثروة في يد قلة، دون اعتبار للتنوع الثقافي والاجتماعي، أسس لواحدة من أعمق الأزمات في تاريخ السودان. وعندما غُيّب صوت الآخر، لم يكن هناك خيار سوى البندقية. ورغم كل الدماء التي سالت، لم نصل بعد إلى معادلة الإنصاف أو بناء دولة المواطنة.

انفصال الجنوب في 2011 لم يكن مجرد حدث سياسي، بل كان صفعة مدوية تنذر بالخطر. لكنه، وكغيره من المحطات، لم يُقرأ جيداً. واستمرت العقلية القديمة: لا اعتراف بالمظالم، ولا استعداد حقيقي للتخلي عن الامتيازات. فغاب مفهوم العدالة الانتقالية، وتغيّب مشروع المصالحة الوطنية الشاملة.

ثم جاءت حرب 15 أبريل، لتكشف المستور وتعلن انهيار الدولة. إنها الحرب التي يمكن أن نعتبرها تجسيداً حياً لمقولة: “النفس طماعة، لو ما ظلمت ما بترضي”. فالجميع حمل السلاح: المركز ضد الأطراف، الأطراف ضد بعضها، والكل ضد الكل. والنتيجة؟ أسوأ كارثة إنسانية بعد الحرب العالمية الثانية.

ولكن إن كان طمع قريب صديقنا قد أدرّ عليه ربحاً مؤقتاً، فإن طمع النخب وقيادات القبائل والمكونات المسيطرة لم يدرّ عليهم سوى الدمار. فقد خسروا وطنهم، وشعبهم، وشرعيتهم، ومستقبل أجيالهم.

وختاماً.
إن بقاء السودان مرهون بكسر هذه المقولة لا بتكرارها. فالطمع الذي لا يرتوي، والظلم الذي لا يُرد، لا يصنع دولة، ولا يحمي كياناً. فهل نملك الشجاعة لنقول: “النفس إن عدلت، بترضى”؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى