Uncategorizedالرأي

الطيب الهادي يكتب التحريرُ المراوغ بين الشعارات الزائفة وقيود الواقع


عندما يعلو صوت البندقية، تتوارى الحقيقة خلف دخان المعارك، وتتحول الشعارات الكبرى إلى مجرد أدوات في يد المنتصر، تُرفع حين تخدم المصالح، وتُسقط حين تنقلب الموازين. في معركة السودان الطويلة من أجل العدالة والحرية، ظلت كلمة “التحرير” العنوان الأبرز لكل من حمل السلاح، لكنها في كثير من الأحيان لم تكن سوى قناعٍ يخفي تحته أطماعًا شخصية وصفقات تُبرَم في العتمة. واليوم، بعد أن دخل السودان في أتون حربٍ هي الأكثر دموية في تاريخه الحديث، بات لزامًا علينا أن نطرح السؤال الصعب: هل كان التحرير غايةً أم وسيلةً لتحقيق مكاسب فردية؟

منذ خروج المستعمر: دولة بلا استقرار

منذ أن غادر المستعمر السودان، لم تعرف البلاد استقرارًا حقيقيًا، بل ظلت تتقلب بين حكمٍ مدني هش، وانقلابات عسكرية تُعيد إنتاج الدائرة ذاتها. لم يكن عدم الاستقرار مجرد مصادفة تاريخية، بل نتيجة حتمية لغياب دولة المؤسسات واستمرار سيطرة النخب على مفاصل السلطة، في ظل حرمان الأغلبية من المشاركة في القرار والثروة.

وفي كل محطة من محطات التاريخ السوداني، كانت أي محاولة للإصلاح تصطدم بجدار صلب من المصالح الراسخة، حيث لم يكن الحكام في المركز مستعدين للتنازل عن امتيازاتهم، ولم تكن النخب المعارضة تملك مشروعًا وطنيًا جامعًا قادرًا على إحداث تغيير حقيقي. وهكذا، ظل السودان أسير حلقة مفرغة من التمردات المسلحة، والانقلابات، والمساومات التي تُبقي جذور الأزمات حيةً، بدلًا من حلها.

الحرب كأداةٍ للتحرير.. أم لاستبدال القيد؟

عندما رفعت الحركة الشعبية لتحرير السودان السلاح في عام 1983، رفعت معه شعار “التحرير”، باعتبار أن السودان دولة مختطَفة من قبل أقلية متسلطة. لم يكن طرحها معزولًا عن الواقع، فقد كان هناك ظلمٌ واضح، وتهميشٌ متعمد للمناطق النائية، واحتكارٌ للسلطة والثروة في يد قلةٍ محدودة. لكن مسار الأحداث لاحقًا أثبت أن “التحرير” لم يكن بالضرورة يعني العدالة، بل تحول في كثير من الأحيان إلى مشروع استبدال نخبة بأخرى، دون تغيير جوهري في بنية الدولة.

انتهت تلك الحرب بانفصال الجنوب عام 2010، لكن الأزمة لم تُحل، بل أعادت إنتاج نفسها في مناطق أخرى، أبرزها جبال النوبة والنيل الأزرق، حيث استمر القتال تحت اللافتة ذاتها، وكأن السودان قد دخل في دوامة لا نهاية لها.

وفي عام 2003، انفجرت دارفور تحت وطأة الظلم نفسه، فحملت حركات جديدة السلاح، رافعةً شعارات التحرير والمطالبة بإنهاء التهميش. لكن بدلاً من مواجهة جذور المشكلة، لجأت السلطة إلى نفس الحلول الفاشلة: المساومات، الصفقات السياسية، وتوزيع الامتيازات على قادة الحركات المسلحة، في حين ظل ملايين الضحايا يُعانون في معسكرات النزوح واللجوء، يدفعون وحدهم ثمن الصراعات التي اندلعت باسمهم.

15 أبريل 2023: لحظة الحقيقة

ثم جاءت حرب 15 أبريل 2023، الحرب الأكثر دموية في تاريخ السودان الحديث، بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. هذه الحرب لم تكن مجرد صراع بين طرفين مسلحين، بل كانت لحظة فارقة كشفت الكثير من الحقائق التي ظلت مستترة لعقود.

لأول مرة، انتقلت الحرب إلى قلب المركز، إلى الخرطوم نفسها، حيث كانت تُصنع كل أزمات السودان. ولأول مرة، وجد صُنّاع التهميش أنفسهم في موقف الضحية، يذوقون مرارة الفوضى والدمار التي عاشتها مناطق الهامش لعقود.

في هذه اللحظة، كان من المفترض أن تصطف الحركات المسلحة إلى جانب من يُقاتل لكسر احتكار السلطة، لكن المفاجأة كانت في مواقف بعض هذه الحركات، التي اختارت الاصطفاف مع النظام القائم، رغم أنها أمضت عقودًا في محاربته.

وهنا يبرز التساؤل المشروع: هل كان شعار “التحرير” يعبر عن قناعة حقيقية بضرورة التغيير؟ أم أنه كان مجرد وسيلة لتحقيق مكاسب فردية؟

السقوط في فخ السلطة

لقد أثبتت التجربة أن كثيرًا من الذين حملوا السلاح لم يكونوا يطمحون إلى تحرير السودان، بل إلى تحرير أنفسهم من التهميش الشخصي، لا الجماعي. وعندما أُتيحت لهم الفرصة، لم يعملوا على تغيير واقع التهميش، بل أصبحوا جزءًا من منظومة السلطة نفسها، يتفاوضون على المناصب، ويعقدون الصفقات التي تضمن لهم امتيازاتهم الخاصة.

إن الثورة الحقيقية لا تعني فقط إسقاط الحكام، بل تعني إسقاط منظومة الاستبداد نفسها، وهو ما لم يحدث في السودان. فكلما سقط نظامٌ، أُعيد إنتاجه بصيغةٍ مختلفة، ليظل الشعب هو الضحية الوحيدة في كل مرة.

الحرية لا تُباع.. ولا تُوهب

الذين باعوا حريتهم اليوم، سيكتشفون غدًا أنهم استبدلوا أغلالًا بأغلال، وأنهم لم يحرروا أنفسهم، بل انتقلوا من سجنٍ إلى آخر. والذين ساوموا على دماء الشهداء، لن يكونوا قادرين على تبرير أفعالهم عندما تدور الدائرة عليهم، لأن التاريخ لا ينسى، والشعوب لا تغفر.

إن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع، وهي ليست شعارًا يُرفع في الميادين، بل مسؤولية تتطلب ثباتًا وإيمانًا لا يتزعزع. فإما أن تكون مع الحرية في كل الظروف، أو أن تكون جزءًا من منظومة الاستبداد، مهما ادعيت غير ذلك.

وما أشد سخرية القدر، حين يكتشف البعض – متأخرًا – أنهم لم يكونوا سوى أدوات في يد من خدعوهم، وأن التحرير الذي كانوا يحلمون به، لم يكن سوى وهم باعوه بأبخس الأثمان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى