
المحايدون في القضايا المصيرية الكبرى: ضبابيون لا أكثر
في الأوقات الحرجة من عمر الأوطان، يصبح الحياد موقفًا خادعًا لا يعكس سوى العجز أو التواطؤ. فحين تكون البلاد على شفير الهاوية، والدماء تسيل، والمصير الوطني مهدد، لا يمكن للمرء أن يقف موقف المتفرج. إن التاريخ لا يرحم، بل يُعلّق لافتاته على ظهور المترددين والمتحايلين بالحياد.
منذ اندلاع حرب 15 أبريل في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع، بادرت القوى المدنية بمسؤولية وطنية عالية إلى الدعوة لوقف الحرب. فقد جاء في بيان مشترك للجبهة المدنية السودانية، والتي تضم أطرافًا من قوى إعلان الحرية والتغيير، أن:
“ندعو إلى وقف فوري وغير مشروط لإطلاق النار، ونطالب بعودة عاجلة للمسار المدني الديمقراطي.”
استجابت قوات الدعم السريع لهذه الدعوات، وأعلنت رسميًا استعدادها للتفاوض وتوقيع وقف إطلاق النار دون شروط مسبقة. وجاء في بيان مشترك بين محمد حمدان دقلو (حميدتي) وعبد الله حمدوك بتاريخ 24 ديسمبر 2023 ما يلي:
“نعلن استعدادنا لوقف فوري وغير مشروط للعدائيات، والدخول في عملية سياسية تفضي إلى حل شامل.”
كما أعلنت القوات عن إطلاق سراح 451 محتجزًا كبادرة حسن نية (المصدر – الشرق).
في المقابل، قابل الجيش هذه الجهود بالرفض التام، ليس فقط تجاه القوى المدنية، بل أيضًا تجاه كل المبادرات الإقليمية والدولية. فقد رفض مبادرة الهيئة الحكومية للتنمية “إيغاد”، وعارض رئاسة كينيا للجنة الوساطة، معتبرًا أن نيروبي منحازة. وذكرت تقارير صحفية أن الجيش “رفض حضور اجتماعات الوساطة التي عقدت في نيروبي وأديس أبابا، متهماً كينيا بعدم الحياد” (المصدر – نون بوست).
ليس ذلك فحسب، بل رفض الجيش السوداني حتى المبادرات ذات الطابع الإنساني، مثل خطة “إيغاد” لنشر قوة أفريقية لحماية المدنيين. وجاء في بيان رسمي للجيش السوداني أن هذه القوات تعتبر “قوات أجنبية معتدية وسيتم التعامل معها على هذا الأساس” (المصدر – العهد).
مع فشل الضغط الدولي، والانسداد السياسي الداخلي، برزت مبادرة التحالف التأسيسي، والتي انطلقت من نيروبي، كمشروع مدني شامل يقوم على السلام العادل، العدالة الانتقالية، والحكم المدني، مع التأكيد على امتلاك آليات تنفيذ واضحة. هذا المشروع لم يأتِ كحلم طوباوي، بل كمخطط سياسي عملي مدعوم بإجماع قوى المقاومة المدنية.
في ظل هذا الواقع، يصبح الحياد موقفًا لا يمكن تبريره. أن تقف على مسافة واحدة بين من يوقع على وقف الحرب، ومن يلاحق دعاة السلام، هو أن تختار العتمة في وضح النهار. أن ترى في هذه الحرب مجرد “صراع داخلي” لا يستحق الانحياز، هو أن تضع نفسك خارج السياق الوطني والإنساني.
وكما قال أحد ناشطي التحالف التأسيسي:
“أي مشروع لا يمتلك آليات تنفيذ ليس سوى حلم غارق في الوهم، وأي محايد بعد اليوم ليس إلا شريكًا في تمديد المعاناة.”
لهذا، فإن من يختار الحياد في زمن القضايا المصيريةالكبري والإنسانية العظمي ليس إلا ضبابيًا، يخشى رؤية الحقيقة لأنها تؤلمه. ونحن نقولها صراحة: المحايدون بعد الآن، ضبابيون لا أكثر.